Saturday, July 28, 2012

صيد الجثامين (2)


صيد الجثامين (2)
فترينة الأبد: الجثة السياسية

رِئَةٌ مَسْرُورَةٌ في حَوْضِ زُهُورٍ مُزَرْكَشٍ بِالقِيَامَة
الكَانْفَاس المُرْفَضُّ عَلَى الصَّلِيْب
تَسِيلُ الحَضَارَةُ مِنْ جَفْنَيْهِ المَخْذُوْلَيْن
حَدِيْدٌ عَلَى مَسِيحٍ عَلَى خَشَبٍ
ومِسْمَارُ الرِّسْغِ رَاءٍ الكَوْنَ بِجِسْمِهِ
جَاهِلاً مَعْنَاهُ
قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ذُهُولاً مُرْسَلاً لِتَنْضِيدِ الرُّسُل.

تعيشت الآيدلوجيات على الإنسان وعلى فرديته، ولكن تعطشها الأكبر كان لجثته، حتى أن نزوع الإنسان لتأرخة مسيرته ارتبط في معظم السرديات الكبرى بالجسد المنزوع من عاديته بالموت المؤدلج. ومن بين أكثر الأجساد مركزية ً في التاريخ السياسي جسد المسيح عليه السلام. نفخ هذا الجسد المصلوب الحياة في المجاز المسيحي وفرض سيطرة جثثية رائدة يبدو تحت ظلها أن معجزة المسيح الكبرى ليست إحياء الموتى وإبراء العيانين، ولكن التكفُّل ببناء مجرة باهظة من الأفكار والقيم ومنصات التأثير والأساطير والتواريخ والحروب والسلط إنطلاقاً من جثته المسمرة على الصليب. فعلى نقيض التفاقم الدنيوي الذي اعقب موت محمد عليه الصلاة والسلام مستدرجاً الرسالة السماوية إلى الأفق الأرضي السياسي، مثلت لحظة قتل المسيح ذروة التجربة الروحية المسيحية، وبنى على مشهد صلبه مبدأ افتداء المسيح لكل البشرية بتقديمه جسده قرباناً أبدياً يتحمل نيابة عن العالمين  آلام الخطايا. إن فداحة افتداء المسيح للبشر تقع في قلب التفكير الديني المسيحي بحيث يصعب النظر إلى المسيحية كحزمة من التعاليم السماوية المنزلة يشيعها عبر الناس رسول مختار؛ شمعة المسيحية أشعلت لحظة قتل ذلك الرسول. وهكذا يبدو أن غياب جسد المسيح كان شرطاً ضرورياً لوجوده، بكلمة أخرى، إن أحد أكبر الأديان في التاريخ البشري ليس إلا متوالية سياسية تاريخية لتبعات تعذيب، وامتهان، وجرجرة، وصلب الجسد الإنساني، تبعات امتحان الإنسان في المعطى الحقيقي الوحيد الذي يخصه.
على النسق ذاته، تغذَّى الخيال الشيعي على لحظة جسد الحسين، والذي ضمنت جثته نهراً مثقلاً بالندم، لكنه قادر على حمل سفينة التظلم السياسي الذي يرى إلى العصبة، التي ستُسَمّى في ما بعد (الشيعة)، أقليةً مغدورةً في حادثة سقيفة بني ساعدة. فمن المعروف أن معركة كربلاء لا تحمل أية أهمية عسكرية، وفي سياق أقل تعاطفاً يمكن أن تُقرأ معركة صغيرة للسيطرة على تمرُّد محدود، حيث لم يزد جيش الحسين عن ثلاثة وسبعين مقاتلاً، بعد تفرُّط مشايعيه في الكوفة. ولكن مثله مثل المصلوب المتروك، يحمل الحسين التاريخَ بكل ثقله وتعقيده، ويظل عالقاً في جثته، مؤكِّداً سطوته الصامتة المدماة في أسطورة تسقط فيها المعايير العادية للقوة، وتنوب فيها الجثة عن الجيوش والآلهة، وتفعل في التاريخ. إن جثتَي المسيح و الحسين ليستا بأقل من مغامرتين جسديتين وصولاً إلى الفعل، حيث تتناسل من ثقب الموت الأسود شهبٌ جديدةٌ تعيد استخدام الجسد كأسطورة سياسية.
 لكن بناء أسطورة سياسية، انطلاقاً من الجثة العارية ليس شيئاً مطلوقاً، فهي عملية مركبة تستلزم، إضافة إلى مزية القتل، بعض المزايا الطبقية أو الكهنوتية، واستحكام السياق الذي يعني فيما يعني اكتمال دائرة جوع ذلك السياق إلى خلق أسطورته الخاصة لتجذير علاقات قوة قائمة بالفعل أو هدمها واستبدالها بعلاقات قوة جديدة. وتُقرأ تلك العملية بشكل أفضل في سياق الخطاب الذكوري الذي كتب التاريخ وحدَّد ما الذي يعنيه الموت والخلود والقداسة. وإذا صح أن الأسطورة تخدم السياق الذي أنتجها، فإن العكس أيضاً صحيح. فالصورة الأصلية للشهيد في الثقافة المسيحية الباكرة صورة ذكورية عنصرية، أي أن الشهيد/القديس هو الرجل الأبيض " الشهداء هم المسيحيون الذين قتلوا بسبب إيمانهم، وقاموا بالتضحية عن وعي وإرادة بحياتهم. أصلاً، في زمن الكنيسة البدائية  كانت كلمتى "شهيد" و "قديس" تحملان نفس المعنى، وبعد فترة طويلة حين تناقص أعداء وقاتلي المسيحيين توسع تعريف "القداسة" ليشمل أشكالاً أخرى من البطولة الدينية" مقروءة مع " بجانب الاختلاف الجندري تدور سير حياة القديسين حول الاختلاف العرقي. في واقع الأمر، ما يسم دارسة هذه السير  في فرنسا الجديدة كأدب استعماري هو الأهمية الأساسية للمواجهة بين الأوروبيين والسكان الأصليين، أو بشكلٍ أكثر تحديداً، بين الإرسالية والشعوب التي تسعى الإرسالية للعمل في وسطها. وعندما تم ارسيت التقاليد الأدبية الأوروبية الخاصة بسير حياة القديسين في منطقة أمريكا الشمالية أصبحت بيئة "العالم الجديد" والسكان الأصليين القاطنين فيه أجزاء محورية من القصة وأُدمجت على أعمق المستويات في القصص التقليدية الخاصة برحلات القديسين وتجاربهم، وفي صراع الخير والشر. يعتقد بعض الباحثين في مجال كتابة سير حياة القديسين الحديث المبكّر بأنّه دائماً ما يتم بناء هذه النصوص جدلياً "بالقياس إلى شيء ما ينظر له كأجنبي، غريب، أو معادي"." [1] في المقابل اقتصرت قداسة النساء "الثانوية" على مجاهدة النفس لصون عفتهن".الاتجاه العام في سير حياة القديسين في القرون الوسطى هو أن يدير الرجال ظهورهم للثروة والسلطة والجنس في هجران بطولي، بينما تنخرط النساء القدّيسات في السعي إلى الروحانية الخاصة الباطنية الموسومة بنكران الذات المنطوي على الزهد والرؤى النشوانة. على بلاطة، حظىى الرجال القدّيسون بالإعجاب لما يقولونه ويفعلونه وحظيت النساء القدّيسات بالإعجاب لمجرد أنّهن نساء.  ظل هذا التقسيم للعمل والقائم بشكل رئيسي على الجنس مستمراً بين قديسي فرنسا الجديدة، متمثلاً في سعي الذكور إلى أدوار أكثر فاعلية كفيلة بترسيخ أصواتهم في سجل التاريخ، بينما تم الاحتفاء بالإناث باعتبارهن "كنوز" عذرية" [2].
 من جهة أخرى، يُعرِّف المعجم الوسيط (الشهيد) بأنه مَن "قُتل في سبيل الله، و، من يؤدِّي الشهادة". وتنطوي قيمة الشهادة في سبيل الله على معانٍ كثيرة؛ أبرزها القتال لنصرة الإسلام، والحرب هي وسط ذكوري بامتياز. وفي الحالتين؛ المسيحية والإسلام، يُستثمر الجسد الإنساني "المذكر" اللحظي للوصول إلى الجسد الخارق، أبد الجسد، الإله، هذه الصورة إنتاج ثمثيلي لذاكرة متعالية على ضعف وإنسانية الفرد وحصوله اليومي ضمن محيط طبيعي، متعالية على عاديته (المقابل المحجب للأنوثة)، وهي من هذا الباب تسرق حقيقةً أصيلةً في وجوده، ولا تفهمه إلا كجزء من وحدة كلية أكبر، أكثر قداسةً وأهمية. ينطوي هذا التعقيد على تعقيد آخر يُقصي الجسد المؤنث سياسياً ويحتكره مُستَخدَماً في أضيق احتمالاته كرمز أخلاقي يتحمل أعباء أخرى شَرَفيِّة تقع خارج نطاق التنافس الحقيقي القائم على موازين القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وهنا تتحول السرقة إلى تصفية راديكالية توجه مسبقاً صيرورات الجسد الانثوي إلى جلجلة وحيدة مطلة على غموضه المفبرك، نجاسته و ارتباطه بالشيطان الرجيم.
إلهي إلهي لم تركتني؟  
 يحل التشوق للجسد الخارق، تلقائياً، أحد أسئلة الجسد الرئيسية؛ الموت، وكل ما يترتب عليه من تأتأة واستغلاق، وبذلك يمثل جسد البطل والرسول والولي منفذاً مثالياً لتفادي مواجهة البساطة المخلة لثنائية الموت والميلاد.  وبالعودة إلى رمزية المسيح، فإنَّ الإسطوري مسيطِر على لحظتين مفصليتين، هما الميلاد، وعلى نحو أكثر تأكيداً، القتل. في الحالتين غُيِّب الجسد الطبيعي وانتُزِعَ من قوانينه، واستُبْدِل مرةً بمعجزة اللاأب؛ ومرةً بصرامة ونهائية الجثة، التي ستعمل، منذ جثتها فما بعد، كنبتة مزروعة في المستقبل حصراً، نبتة محجوبة عن ماضيها وعن جذورها الإنسانية، عن عاديتها وفنائها. لقد سَرَق الصليبُ المسيحَ  الإنسان كما سرق رأسُ الحسين الحسين.



[1] Colonial Saints: Gender, Race, and Hagiography in New France, Greer, Allan, page 330
[2]  Ipid, page 328

No comments:

Post a Comment