Saturday, July 28, 2012

صيد الجثامين (1)


صيد الجثامين (1)
نجلاء عثمان التوم

سَبّابة في الهواء
ظلَّت هذه الحكومة، كسابقاتها، مصدر ترويح نادر للحشود الكثيرة المعبأة قسراً في قنينة السودان. فالعيش في بلدٍ يتأبَّطه حُكَّامُه مثل حُقَّة تُمْبَاك تجربةٌ جاثمة تجرحها فكاهةُ الخلل. ويعزز من تلك الفكاهة ميل رسمي لاستخدام مجازات تشريحية، ومن ذلك الوعيد بفقع مرارة الجنوب (عنوان رئيسي في جريدة الأحداث، تصريح رئاسي، 13 فبراير 2012)، والضرب بيد من حديد، وأننا لِحِسْنَا كوع اليأس، كما تعرفون. ومثل كل خيال مُقْفِر، تعيَّشت حكومتنا على ترهيب الجموع بتضخيمها لهيبةٍ استيهاميةٍ يغذِّيها تفشِّي الجيوش، وتوزير الصقور لاعقي غيبوية الحاكم الإلهية، وتَسَرْطُن الظل الإداري، مع تأليهٍ خاصٍّ لصيِغَ لغوية عُصابية تُحَوِّل هيكل الدولة إلى قنفذ شوكيٍّ ينصحك كلّ قلبك عدم التورُّط في مخالطته. كما أفرزت خطابها اللغوي والبصري، فزكمت أرواحنا. ومن بين أياديها أنها أدخلت، لأول مرة، إصبع السبّابة في تاريخ سودان ما بعد بنك فيصل الإسلامي، حسب تقسيم كمال الجزولي. حيث، في السراء والضراء، تُرفع السبّابة لتعرّس للشهيد، وتجلد السكارى، وتفتتح المشروعات، وتكشّ ستّات الشاي، وتشارك في توقيع ونقض المعاهدات، ليتراقص هذا الأصبع العجيب معادلاً فجاً للزغاريت والتصفيق والشبَّال والبُطان والسودان.

سمكرة الجسد
 تصعب قراءة هذه السبابة الفالحة بعيداً عن مشروع سمكرة الجسد السوداني، وتشليع ملامحه وطمسها ما أمكن.  ومن حسنات هذا المشروع الفاشل نجاحه في كشف أن الجسد، في مطلقه، دمل لا يبرأ في عين النظام. وكما هو معروف؛ لم ينشغل هيلمان الحركة الإسلامية السودانية بشيء قدر ترويض الجسد، حياً وميتاً، فأسلمه للتجويع المذل مختزلاً تعقيده الشديد في سؤال الرمق، وبتره من خلاف، وعلقه على المشنقة علامة استفهام عليمة حول ضمير وكرامة الإنسان. ثم عكف على زركشة احتضاره اليومي وانتخب له من الحياة البرّية فكرة توحيد زي الموظفين والطلاّب، تأسّياً بحمير الوحش، وأدخل السبحة وعلامة الصلاة كإكسسوار لاهوتي، واستبدل الألوان في الزي المدرسي بالمبرقع العسكري، ليذكِّر المراهقين بأنهم في حرب مع أجسادهم الشيطانية، وفوق ذلك شرع القوانين العسف، وسَنَّ سياطه وعسسه، و أعلن التعبئة العامة لخفر العفاف الجمعي المهدّد. وبمناسبة العفاف الجمعي تأملت، يا للندم، مطلع أغنية وطنية يعترف فيها مغنيها/شاعرها أن محبته للسودان تعود، في المقام الأول، إلى القيمة الجنسية الأخلاقية لمواطناته الإناث أو عفافهن بين قوسين[1]، وهو اعتراف آيروسي كان ليثلج صدر سيجمون فرويد و يسبب ارتباكاً فظيعاً لخورخي لويس بورخيس. لكن لا يحق لي التذمر حيال ذلك الخيال بقدر ما يحق لي احتطابه وصولاً إلى عناصره الأصلية المحتملة، وهي ،في هذه الحالة، الجنة القرآنية بحضوراتها الحسية الخالدة.  

الحفلة التنكرية
إنّ سرقة الجسد؛ بحجبه وترويضه، هو تخريبٌ لوعي الاختلاف، ولكن يُضْمِر تاريخ السودان ما يتعدَّى ذلك إلى سرقة الإمكان والمستقبل، إذ يَحجب الذاكرةَ الجمعيةَ من مكاشفة ذاتها وفهمها، بمنع مداومة النظر في تاريخها وكبواتها وأوتادها ورموزها، لتظل القروح مغمورة في الحيرة، وتذبل اللمعانات القليلة تحت حافر الجهل، ونُحرم من الوجود في المستقبل بسبب أسئلة الماضي وتركاته.  ولعل هذا الحرمان المتَّسِع لا يَضِيق بشيءٍ قدر الجثامين المحرِّضة على الحياة والكرامة، فينتهي إلى تحجيبها: في عام 1898م قصف السردار كتشنر قبة الإمام المهدي بالقنابل، أحرق رفاته، ونفى رأسه إلى بريطانيا تشفياً. وفي نفي آخر تُركت رفات الحاج محمد أحمد سرور (المتوفَّى 1946م)، و رفات علي عبد اللطيف (المتوفَّى 1948م) للنسيان في أسمرا والقاهرة على التوالي.كما أُخفيت قبور الكثير من السودانيين من بينهم شهداء يوليو 1971م، و محمود محمد طه في 1985م، وشهداء رمضان 1990م، وفي آخر هذه الحفلة التنكرية؛ بُتِر شلو الجنوب من جسد السودان، وقُبر في جهالة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، لنَرِثَ خريطةً مخاطيةً شائهة تشبه تقليداً بائساً لكوابيس سلفادور دالي.

أوسكار الجوع
وعلى ذكر الكوابيس يلزم استعادة جثتنا الوطنية الفائزة بجائزة البوليترز للتصوير الفوتوغرافي عام 1984. لقطة منتزعة من كتلة الصمت الرب، زهرة تتويج هشاشة الجسد الإنساني تحت صخرة الكوارث المصنوعة يدوياً. ولمرة أخرى تصعد جثتنا إلى منصة الأوسكار، وكأننا نخترع أبجدية الضلوع ونشرحها لجحيمها ذاته، وكأننا لقطة أبدية تتناسل على مصاطب العبث، ففي المجاعة التي حصدت وشردت مئات الآلاف استدرك الجسد الجمعي خبرته كلحظة، أو عبور طارىء داخل اللحظة، بريئاً من التفسير والفهم وأقرب إلى زهده الأصلي في المعنى. 

220px-Kevin-Carter-Child-Vulture-Sudan[1]
1984 جنوب السودان، تصوير كيفن كارتر


سرقة مِن خلاف
ولكنْ كثيرٌ من هذا البعض قديم، فالمستنقع الحاليّ ليس إلا استمراره. والسودان المنقوع في العنصرية والتحيُّزات الصغيرة يكشف عن سريرته وأحواله، مضطرباً ما بين مساقط أسئلته الرئيسية وطموحه المجروح. عدا أن لحظة/ورطة النظام الحالية سالت، وتميَّعت، كاشفةً عن بؤسٍ أصيلٍ بحيث لا يجد ربابنة هذه الخطة اللانهائية ما يسيرون عليه سوى الجثث. مع ذلك، فأكثر ما يُوْجِع هو كل شيء تقريباً. فهذه اليد الضاربة في الغلظة تجلد علينا محمودَنا وزيدانَنا على رؤوس الأشهاد، نازفةً بؤسَها ولحظيَّتَها وفقرَها الفضائحي، مقابل جموح وَلَدين غارقين في نِعَم الخلود وإنْ كَرِهَت. وكأنَّ الحياة هي هذه الفسحة المضيَّقة التي لا تحتمل اختلافَنا، وكأن الزمن هو هذه المسافة بين السوط واللحم. كما تَسْرِق الحكومة منّا وَرْدِينا وتشيِّعه وتصلي عليه في الضحى الأعلى. وردي كلّه، الذي، من كثرته وسيطرته، نسينا لوهلةٍ أنه يقف سادناً خطيراً لسماء السودان، ونقشاً جميلاً على باب قسوته. 

آكلو التمور
على الباب ذاته رأيتُ، عن قربٍ، رايات الختمية في السماء الأخيرة الناظرة إلى الشاعر محمد الحسن سالم حُمِّيد، وسمعتُ خطيبَها يتلجلج، محاولاً شرح الميت الضخم. وحين وقف جميع مشيعيه مصقوعين من فداحة  الحَجَر الذي هطل عليه رأس حُمِّيد، تقدَّم ابن الميرغني، الجديد، في حاشية قديمة، وانقضَّ على ضيمنا. حُمِّيد الذي كيف ترفرفُ أيّة راية، سوى قيامته في قلبه وتهدُّجه على منبر الحرية. يا ترى من أين جاء الختمية بشجاعة توديع شاخص مهيب مشكّك خارج على المواضعات مثل حُمِّيد؟، وكيف يخطبون وكأنّ قبره صمته، وكأن جرحه بلاغته كلّها، ولماذا يتقدَّمون صفوف من عاش ومات على ماءِ كتَبَ. ولكن يبدو أن السادة المستمرين مستعدّون لأكل تمرنا وقلوبنا،كما ظلوا يفعلون.


[1]  احب مكان وطني السودان لأنو حسانو أعف حسان، سيف الدين الدسوقي

No comments:

Post a Comment