Monday, February 25, 2013

إن كان لابد من وريث شرعي لمحمود عبد العزيز فهو بلا شك حمزة علاء الدين

Saturday, February 23, 2013

في اشتباك الموسيقى مع التحول السياسي



في اشتباك الموسيقى مع التحول السياسي
إلى ناجي البدوي
الإشارة هنا للموسيقى في عبورها المحض، الموسيقى المخلصة لمنطقها الفني وليس الموسيقى المستخدمة سياسياً. هذه الموسيقى الغافلة الآبقة المنغمسة في ذاتها هي التي تفعل، وهي وحدها المؤهلة للفعل السياسي وليس أي موسيقى أخرى. الإصغاء لمغامرة الفن، للموهبة وأشواق ما هو غير معين بسياق تاريخي يخلص العمل الموسيقي من لحظته ويحوله إلى مارد فضيلته الأساسية التخريب. تخرب الموسيقى الحقيقية، بمثابة قناص، اللحظة الخربة التي تحتاج وتستجدي التخريب. تغتال الموسيقى الحرة الذوق المستعبد، تعيد النظرة الهاربة إلى جحيمها المتفاقم، تحول الجحيم الشخصي المحتمل إلى جحيم غير شخصي وغير محتمل، وتخرب الأكاذيب التي يتعيش عليها الأمل الرخيص والرضا. ما الذي يحرك الجموع ؟ ليس الجوع  ولا الغبن ولا الأمل، ما يحركها هو الاحراج، النزف المكتوم الذي لم يعد من الممكن الهرب من التحديق فيه وهذا هو بالضبط ما يخلقه الفن العظيم. يتجاوز المغني لحظته التاريخية، وجمهوره و حنجرته ، وموسيقاه وعازفيه، وفيزياء تتماهى مع وتخدم الخنوع والقانون والعرف، إلى لحظة مصيرية معلقة في فضاء حر لا يقبل  ولا يستجيب إلا لإدماء الحرية. في هذا الفضاء يحمل المغني جثته وجثة جمهوره ويختبر متوحداً فيهم صواعق وأهوال الصدق. غير عابىء بروحه ولا حريص على لقيته. ما أن يتذوق الجمهور تلك التفاحة المحرمة لا يعود قادراً على البقاء في جنة الطاعة، لا يعود الأمل كافياً، ولا السلامة المطلب. لا تعود الصداقة ولا العائلة ملجأ كافياً، ولا الغياب في الجنس، أو الحب أو الأمومة غياباً. يتحول كل جميل ومحبوب وعزيز إلى ململة اشواق تحققه في كماله الأقصى. يستيقظ الممكن والإمكان. يتحول الهمس إلى فراشة تبحث بدأب عن نارها، والحذر إلى شهوة تحتضر. عندما يتوحد الفن، ينفصل وينقطع ويتصل مع تخوم حرائقه خادماً فقط ملذاته وشكوكه في جدارته وصدقيته عندها فقط يكون الفن سياسياً. نحن بحاجة إلى فن عظيم يجعل من الحياة، والتي هي كل ما نملك، لحظة مشكوك فيها، كذبة، جحيم من الاحراج الروحي لا يمكن تفاديه و لا التعاطي معه، هذه اللحظة المنتحرة هي اللحظة الصحيحة والصحية لولادة الغد، عندها فقط يمكن أن يبدأ التفكير، منهكاً وضعيفاً وقوياً مثل جنين، في كيف يستعيد الفرد روحه من الابتذال والوضاعة، أي البداية الحقيقية للتحول السياسي. هذا هو بالضبط ما فعلته اريثا فرانكلين و بيلي هوليداي في امريكا الفصل التعسفي، وهو ما جعل حركة الحقوق المدنية مارد حالم تحركه اصوات المغنيات السود.

Friday, February 22, 2013

ماكبث طليق في ضمير السودان




ماكبث طليق في ضمير السودان
انتحارات الحركة الاسلامية السودانية
يمكن أن نرى إلى انقلاب الانقاذ من ناحية انتحاريته الشخصية وانتحارية الحركة الاسلامية فيه. فالمعمار المعقد لهذه الجماعة قيد التفكك بفعل دينميكياته الداخلية ومعكوفاته الخصيصة التي انطوى عليها تربيةً وشحذاً و تدجين . وبقدر انهماك الحركة الاسلامية في مستنقع السلطة انهمكت السلطة في جسدها واختطفته من مركزيته و صرامته التنظيمية وانتهت به إلى نظام محكوم بمبدأين متناقضين: الحركة الإزاحية والقبر. استلهم الاسلاميون في التمكين خيال وطموح السرطان، النمو حثيثاً باتجاه السيطرة الكاملة، التوسع الأفقي الذي هو اليتم أيضاً لإفتقاره للمركز. إن كل خلية يغزوها السرطان تتحول إلى منصة، إلى عبور باتجاه خلية أخرى. والخلية الأخرى بخلاف مؤقتيتها فهي موجودة أيضاً في الاحتمالات المكانية والزمانية كلها. يتحرك السرطان في الماضي بنفس طريقة تحركه في المستقبل. وهو يفتقر، مع ذلك، لأي لحظة ثابتة لأن وجوده مختَلج في الهناك، في الحج، في الازاحة المستمرة لهويته الحالية. لقد فقدت الحركة الاسلامية هويتها المنتحلة كأصل وانتهت إلى هويتها الحقيقية  كعبور براغماتي مستمر في تحقيق  شهوتها المحمومة للسلطة. في هذا الفقدان المرتبك مسخت ماضيها ومستقبلها بالسواء.
 هذه التعرية هي غربة المؤتمر الوطني الحالية وفضاؤه الوحيد الممكن لأنه أكل كل فرصة في النجاة من نفسه. ها افقرت الحركة الاسلامية، بيدها وبيد عمرو (ها)، الطاقة السحرية لمغنطيس الدين. ومع توغل رموزها في آسان "الدنيوي"، وتخلع الخطاب الروحاني لم يعد ذلك المغنطيس أكثر من حديدة فزعة تستدعي الشفقة رغم التوسع الوهابي الكبير في وسط السودان، هذا التهدج الذي يغذيه اليأس والخوف من الغد أكثر مما هو مشمول برحمن الرؤيا و الابتكار. اما لماذا يتوهب وسط السودان دون عداه فذلك لأن لديه بعض الترف ليستشعر الحاجة إلى الأمان، بينما غرقت كافة الأطراف الأخرى في سيل من العنف جعل من الحياة مطاردة مفزعة للعيش تفشل بالتوازي مع الفرار المضني من الموت. ليس هناك حاجة لإله وهابي أو غير وهابي عندما لا يعود الإنسان إنساناً.
اختارت الحركة الاسلامية اعدائها بنفسها بعد إفراغ الساحة السياسية والفكرية من كل منظور، والعدو الرئيسي لها هو هذا الفراغ العجائبي الذي تقف حياله كلها ووحدها. لا يرقى هذا الفراغ لمرآة لتنظر الحركة الاسلامية جسدها، ولذا تمشي الخيلاء وهي ترتدي عورتها بالذات. في هذه المتاهة الماركيزية التي ديكورها الرئيسيى قتلى وضحايا وفقراء بلادي اشتكل كل شيء عليها لأن تعريف الشيء عندها امتلاكه. لا تجرؤ الحركة الاسلامية على النوم وهناك فكرة حرة طليقة في هواء السودان، واذا امتنعت هذه الفكرة على حيل افتضاضها هاج فحل الاسلام وماج وانتهى إلى قتلها. بهذه الركاكة يحارب جيش كامل من الرقباء كتاب الرأي والذي هو في اصله حركة هامسة محطها جدل افتراضي مع ثوابت أو شكوك القاريء. تكرس الدولة الاسلامية جزء كبير من عقلها لعقل ناقة التفكير الايجابي في السودان إلى مرق التوكل. تراقب وتحصي وفي ظنها أن ذلك الكبل يمد في آجالها، لقد نسيت ان الحوار الذي تجريه الآن هو حوار مستمر مع طرف مستمر هو نفسها، أي التأهل بكامل الإرادة للجنون. تكتب الحركة الاسلامية تكرسها إلى أن تفيض عنها وتمحوها، هذا هو الأفق. إن اقل نظرة إلى تاريخ النجاة كافية لمعرفة أهمية الحوار مع العدو. فالكائنات التي انقرضت هي بالذات التي اعوزتها القدرة على إدارة الحوار مع المعطيات المتغيرة لبيئتها. في معظم الاحوال يطابق مفهوم الثبات الفناء، وفي معرفتنا المحدودة بالموت فإن حقيقة الثبات فيه كحالة هي إحدى الحقائق القليلة التي نحوزها. إننا لا نعرف الكثير عما سيحدث لموتانا ولكننا لا نعود من المقابر  إلى البيت ونحن نتوقع –هنا- رؤية من دفن قبل قليل هناك، ولذلك يمثل القبر ثباتاً مزدوجاً من حيث أن ذلك الجسد هناك فقط وأنه هناك الآن وإلى الأبد. هذا هو ما يدعو إلى اعتبار الحركة الاسلامية في السودان جثة مؤكدة لأنها اختارت إن تكون هنا وأن تكون هنا إلى الأبد، في هذا القبر المتوحد. هذا الثبات الموتي المقرون مع الازاحة المستمرة والتوسع على حساب الوجود الطبيعي لأي آخر مهما كان هو انتحار الحركة الاسلامية مرأى ومسمع روحانيتها التالفة.لا تنتهي مسرحية اوديب قبل أن يعاشر امه جهلاً بها، ويقتل ابيه جهلاً به، ويفقأ عينيه إدراكاً لجهله. ومع كل ما نراه من تخبط و فحيح نعرف أن الحركة الاسلامية عاشرت وقتلت وفقأت وجودها ولم يبق إلا ان تدرك إن تلك الجثة المتحللة هي جثتها هي.
يكون من اللازم أن نسأل إذا كان كل ما بحوزة الحركة الاسلامية هو جثتها وتحللها لماذا تفشل المحاولات المستمرة لإحداث تغيير سياسي. هنالك أكثر من علة، لكن طموحي مقصور على مساءلة طبيعة ذلك التغيير عينه اذا كان يستمد مادته وخياله وخياراته من الشروط السياسية والفكرية الراهنة التي ينتجها الخطاب الانفرادي للحركة الاسلامية. للتوضيح سأستخدم ماكبث شكسبير بوصفه حالة ذهنية نشطة تكتنف دوافع ورغبات الحركة الاسلامية في السودان. بنى شكسبير مأساة ماكبث على فكرتين رئيسيتين هما النص والتأويل. والنص في هذه الحالة هو نبؤتين اعترضتا حياة ماكبث واعادتا تشكيلها. في النبوءة الأولى تخبر الساحرات ماكبث، والذي لم يكن  أكثر من قائد عسكري ناجح، أنه سيصبح ملك اسكتلاند. هذا هو النص، وتأويله من جانب ماكبث هو بقية الأحداث. سأعود للنبوءة الثانية لاحقاً. هذه النبوءة الأولى، النص، ليست موجودة في أي مكان خارج معناها الذي انتخبه الشارح. التأويل في أصله عملية تشمل كل احتمالات المعنى، ولكن المعنى يتحقق في سلسلة إجراءات استبعادية من جهة وإثباتية من جهة أخرى . بمعنى آخر، نص النبوءة هو نص محايد ولا يحمل أي معنى في ذاته والمعنى الوحيد الذي يحظى به محدد بدرجة ناشطية تأويله. كان يمكن لماكبث أن يفسر هذا النص في نطاق معرفي بسيط قائم على القرائن الحاضرة التي يكون معها احتمال موت الملك وجميع اولياء عهده مسألة مستحيلة. نطاق الاستبعاد يشمل اختزال النص من مجال يحوي كل المعاني الممكنة إلى مجال لا يحتوي على أي معنى، ولذلك ينتهي ما يبدو كأنه لامعنى إلى الاهمال أو النسيان. ولكن ماكبث لم يهمل أو ينس تلك النبوءة ، بل اختار أن يمنحها حياة نشطة ضاغطة لا تقبل التأجيل. لقد قتل ماكبث، تحت الثقل الهائل للمعنى الذي اعطاه بنفسه للنص، ملكه دنكان وانتزع عرشه . كان ماكبث موجوداً في ذلك المعنى وليس العكس، لقد كان ممتلكاً ومنتهباً في شهوته للسلطة. هذه النبوءة ورغم انها تبدو خلق لاحتمال جديد لم يكن مطروقاً  إلا انها في حقيقة الأمر توسيع أفق ما كان دائماً حاضراً في ضميره. ما فعلته الساحرات في ماكبث هو تغيير زاوية وافق النظر في المستقبل من منظور الربوة إلى منظور جبل، عالٍ بما يكفي لتكوين افق يسمح باحتضان ذلك الممكن الجديد. هذا هو ما حدث مع الحركة الاسلامية في شهوتها الداخلية الكامنة  الى السلطة منذ تأسيسيها وهي رغبة قمعت فقط من اجل تأكيدها و من أجل الاستعداد لتحقيقها.  فطوال فترة التأسيس وما تلاها من مغامرات سياسية تم تمييع هذا النص المركزي، الشهوة إلى السلطة، تحت ستار أن الحركة الاسلامية حركة سياسية عقائدية لكنها أولاً منظومة روحانيىة قوامها الأخوة في الإسلام وغايتها التربية الروحية." العام 1979 م، غير بعيد من شاطىء النيل الأزرق، جلس بضع عشرات من طلاب العام الأول لبضع جامعات سودانية يرهفون السمع لمحدثهم تلك الليلة، الاستاذ علي عثمان محمد طه، المحامي يومها: (نحن اليوم في الحركة الاسلامية اشبه ما نكون بالمؤمن الذي قطع شهر رمضان صياماً وقياماً، وقد دخل في العشر الأواخر، يتحرى ليلة القدر، لقد قطعت الحركة الاسلامية في السودان غالب اشواطها وهي تتقدم اليوم حثيثاً لتشهد ليلة القدر)". [1] ليلة قدر اسلاميي السودان حانت في لحظة الهرجلة التي تصاحب الدروس الأولى في الديمقراطية. انقضت الحركة الاسلامية على فصل محو الامية الذي انتزعه السودانيون نزعاً من بين مستقبلات أخرى قاتمة. و خلال ثلاث وعشرون عاماً استخدمت الانقاذ المسلمة اسلامها حتى استجار منها بالنار.  والآن مع تداعي كل تلك الهروبات تحت ضغط الرغبة المطلقة التي توجه سفينة الحركة الاسلامية يتحقق المعنى الكامل لها، معناها الذي استلهمته من ذاتها وليس أي معنى خارجها. الرغبة المطلقة التي لا يعادلها إلا الخراب المطلق. ولكن هذا الكشف المأساوي حدث في مسرح مأهول ومنكشف.السودان كله هو المسرح الذي استخدمته الحركة الاسلامية لتكتشف ذاتها وتكشتف خسارتها. وفي هذه الخسارة خسرنا مع الحركة الاسلامية ودفعنا أثمان ما لم نشري.
 ولكن السودان وأهله ليسوا مجرد ضحايا، لقد كنا مسرحاً مستعداً لاحتضان مغتصبيه. بلادنا نطاق كامل من الاحتمالات والمعاني والإمكان تتشممه ضباع مستثارة للعنف. هذا هو ما اغرى ماكبث الحركة الاسلامية بالركض طليقاً في ضمير السودان. وبقدر استعداد ماكبثنا لتلقف دوره خائناً كنا وما نزال غرقى في تأويلات تحيلنا دائماً إلى محكومين، إلى سجناء و مطاردين و شعب. اننا كسودانيين نتطابق بشكل مذهل مع التعريف الرئيسي لمفردة شعب في "لسان العرب" حيث أن الشعب هو الجمع والتفريق والإصلاح والإفساد، أي الضد. اننا كل شيء ونقيض كل شيء ، ورغم الغنى الذي ينطوي عليه هذا التعقيد لم نتلمس منه سوى القشور والتسطيح الذي يعكسه عنف وفقر الجدل الفكري والسياسي اليوم. هذا العنف هو الاجابة- التي فرضت نفسها - على كل الاسئلة الجدية التي لم تطرح بشكل كاف او طرحت دون شغف.إن فخ الهوية الذي استدرجنا اليه بوصفه السؤال الرئيسي الذي في طويته تتكشف كل اسئلتنا الأخرى اكتسب مشروعية جديدة مقروئاً في صحيفة الصراعات الحالية و كأن هذه الصراعات تحوز مركزاً ثابتاً و أن هذا المركز الافتراضي هو الهوية. اعتبر ثنائية الغابة والصحراء واحدة من اخطر الدوائر المغلقة التي ضُربت على الفكر السوداني. وهي مغلقة لأنها استجابة لنمط كسول يفترض أن الهوية مكون ثابت وأن الهوية في ثباتها قابلة للتصنيف القاطع وفقاً للثنائيات التي تضع الرب مقابل العبد والرجل مقابل المرأة والحكومة مقابل الشعب والعرب مقابل الافارقة. إن هذا التصنيف كما هو واضح هو مجرد تنازل، من الطرف الذي يعتقد أنه الأقوى، لتأكيد اعتقاده في قوته بهذا الاقتران. ومن ذلك أن الهوية العربية تعرف بنقيضها: يقول "لسان العرب": العرب جيل من الناس معروف خلاف العجم.  وتحاكي هذه الروح المثل الاغريقي" اذا لم تكن اغريقياً فإنت بربري" و الحكمة الخالدة لجورج بوش  "من ليس معنا فهو عدونا". هذه هي عواقب التورط في النموذج الثنائي الذي لا يتسع لأي قيمة خلاف علاقات القوة. مع ذلك يبقى الالتهاب الرئيسي في جرح الهوية هو السؤال نفسه، لأن توطين سؤال الهوية في مجازي "الغابة" و"الصحراء" الملطخين بالنظرة الاستشراقية خطأ لا يغتفر. لقد استهلكت اوروبا الاستعمارية مجاز الغابة(الطبيعة البكر/ الزنوج الأوباش) والصحراء (النقاء/ البدوي الجلف) بكل ملحقاته لأنه كان يخدم مشروعها الامبريالي ويسوغه اخلاقياً واضطرت لاحقاً للفظه وخلق مجازات جديدة تخدم مصالحها القديمة. و الناظر إلى السودان يرى أنه بحضاراته القديمة و مكوناته الثقافية و تعقيده الأثني و اللغوي لا يقبل الاختزال في ثنائية الغابة والصحراء ولا في تسوية الهجنة التي توصلت اليها والتي لم تسعفنا في تأويل و قراءة معظم الشفرات المكتنزة في ثقافاتنا المتعددة. الهوية معقدة ومتحركة ويمكن تمثلها فقط بوصفها عملية مستمرة وليس ابداً كمنتج نهائي. إن تعرض النسيج المروي لخيوط المسيحية لا يصنع فقط هوية مسيحية لكنه يصنع ايضاً نسيجاً داخلياً يحوي كل الهويات التي تدخلت في صناعة المسيحية منذ نشأتها. وفي هذا التعقيد يتدخل تعقيد آخر هو تعقيد اللغة التي انفتحت على نظام كامل من الاشارات والترميز يفاوض نظامها المركب بطبيعته. الهوية السنارية هي هوية متحركة ايضاً وهي التذبذب المستمر الذي يسببه الاشتباك بين مجموع كل هذه الهويات. إن حدوث الاسلام لم يلغ نظام الاشارات النوبية، النوبية المسيحية ، أو الاشارت الوثنية ليصل إلى استقرار نهائي بل ظل وسيظل في جدل مستمر معها. ويسري ذلك على البنية العميقة للغة التي هي اصلاً التعرض المستمر والوجود على حواف الإمكان وليس التحقق الكامل. الهوية هي هذه المساحة المراوغة متعددة الطبقات والاتجاهات و تجفيفها إلى عنصر أو آخر يلغي خاصية هذا الجدل والذي هو الدالة الرئيسية في تكوين الهوية. سمحت المركزية الموغلة في النظر إلى الهوية في اطار العربي والمستعرب بتمرير جرائم كبيرة مثل تضييع اللغة النوبية و قمع اللغة البجاوية واهمال اللغات واللهجات الأخرى في جبال النوبة. إن التفريط في أي لغة وقتلها يعني خسارة وجهة نظر كاملة حول العالم و خسارة طريقة ناجحة في تحليل المعطيات وفهمها واعادة انتاجها، وخسارة امكانات غير محدودة في بناء البشر.
مسألة اخرى استحلبت طاقة السودان؛ اغراقه- لهزاله السياسي والاقتصادي والفكري- في صراعات اصطفتها رياح القوى التي اصحبت قدراً دولياً. إن التقاصر عن استيلاد اسئلة ومفاهيم وأطر فكرية جديدة شيء و التقاصر عن رد موجة الاسئلة المفروضة علينا شيء آخر. متى كان الصراع بين الاسلام والمسيحية سؤالاً رئيسياً لشرق السودان؟[2] الشرق الذي يدهسه العطش و ينتزع انسانيته الفقر هو ساحة حرب تحدث كل يوم وتنتهي بانتصار التخلف، وفي هذه القتامة يكون على ما يكاد أن يكون جثته الوقوع في شرك الحرب بين الأديان. ولكن الشرق أيضاً سيكون ساحة للنزاع الطائفي، لأن تدفق أموال الخليج لإخماد عطشه تعني أن هذا العطف الانمائي مشفوع لا بد بتأسيس قلعة وهابية تصد رياح التشيع وتفتك بالنزعة الصوفية. تتولد اسئلة اللاعبين الدوليين في جثتنا الخاصة ونسهر جراها ونختصم. هذا الجنون هو حصادنا وما بشرتنا بها الحركة الاسلامية حين اغرقتنا في اسهال مشروعها الحضاري وفي صراعها المفتعل مع الغرب وفي لعبة سلم الخليج وثعبان ايران.
 في النبوءة الثانية لم يكن على ماكبث تغيير منظوره فذلك الافق  الذي شتل فيه حلمه بالملك هو نفسه الأفق الذي يسمح برؤية غابة تتحرك باتجاه القصر. كانت كل الاشارات السابقة لتلك اللحظة تشير إلى حدوثها. بنى ماكبث بنفسه الرحم الذي سيولد منه خصمه.كما أن الغابة التي تمشي لم تكن آتية من وراء ظهره بل ظلت دائما امامه، كان يعرف أنها آتية لا بد ولكنه لم يفهم ابدا منطقها. الغابة التي تمشي هي لغة أخرى، مجاز/حقيقة لم يتواصل معه ذكاء ماكبث. تحركت الغابة في مستوى معرفي معزول عن المستوى المعرفي الذي يتحرك فيه ماكبث لذلك فشل في حل الشفرة وتدارك مصيره. هذا العمى هو موهبة الحركة الاسلامية  إلى جانب الاقصاء الجذري للآخر في كل اشكاله بحيث لم يتبق عود صالح تتوكأ عليه. ولكن تحلل الخطابات، والأحزاب، والمقاربات الأخرى أخطر على المؤتمر الوطني من قوتها لأنه يسلمه للفراغ الذي يعني فيما يعني تخلق افق جديد راديكالي بفعل الحاجة وبفعل الضرورة. ما يعطل تشكل هذا الافق حالياً هو الأمل في الخطابات القديمة النافقة، والتحركات الدولية والاقليمية المشبوهة. لكن ما أن ينقطع هذا الأمل ويسود اليأس ويطبق حتى تبدأ الولادات الجديدة التي سنضطر وسيضطر العالم للتحديق فيها مطولاً لفهمها .ستكون هناك غابة تمشي باتجاه القصر ولن تفهمها الحركة الاسلامية ابداً. لكن ذلك لن يحدث قبل أن يحدث القطع الكامل بين الخطاب والمستوى المعرفي الذي تذوب فيه الحركة الاسلامية حالياً والمستوى المعرفي الجديد. إن فشل كل المحاولات الفائتة لإنتاج تحول سياسي سلما وحرباً، هذا الاجهاض المستمر، سببه سيطرة الخطاب الواحد والذي ظل ينتج ويعيد انتاج نفسه متحولاً بذلك إلى الفضاء الصمد الذي يفسر كل الظواهر من حوله وفقاً لنظامه الفكري وذرائعيته السياسية. اننا اذ نخرج إلى الشارع متظاهرين فإننا لا نخرج على انما نخرج في خطاب سياسي حدده المؤتمر الوطني ورسم أبعاده كلها بما في ذلك احتجاجنا عليه. وعندما ننتخب أو نقاطع فإننا نتحرك بالذات في الاحتمالات التي تركها لنا ذلك السياق الواحد. داخل ذلك الخيال المهيمن تفقد كل ظاهرة معانيها المحتملة لصالح معنى محدد سلفاً (يعتقل المؤتمر الوطني حركة التغيير في حدود رد الفعل وليس في لا حدود الفعل )، لذلك تفشل المذكرات والمظاهرات والحركات والمفاوضات و الانتخابات والغد. لذلك تغرق كل اصوات الاستغاثة في الثقب الاسود لهذا الخيال. نحن سجناء عقل الحركة الاسلامية والخروج منه لا يبدأ بسؤال من أين اتى هؤلاء، ولا بسؤال من نكون، بل بالشك في هذه الاسئلة وتقويضها للخروج منها إلى اسئلة جديدة تخلق الخيال والعقل الجديد.

                                                                             نجلاء التوم
                                                                             نوفمبر 2012


[1] المحبوب عبد السلام ، الحركة الاسلامية السودانية: دائرة  الضوء خيوط الظلام، ص 14
[2] انظر مقال د. عبدالله علي ابراهيم " إن الدين عند الله الاسلام"، 25 ابريل 2012. صحيفة سودانايل الالكترونية

اسم الجنازة




اسم الجنازة: تجريد المجرد
بيت البكا حيز تفكيك وازاحة يتحول فيه الغامض المتعالي إلى اشارات مشتركة دالة عليه ليس في غموضه فحسب بل في ازاحيته وخارجيته وعزلاته. أداءات جماعية تدحض الموت بتنزيله إلى لغة، مؤامرة التفادي والتعمية بتحويلات دقيقة تبدأ دائماً بتسمية المسمى وتعيين المعين. بيت البكا الولادة الثانية لما كان مرة كائن معين باسمه، قبل برهة كان شخصياً، وكانت له رائحة وشخير وكان ينسى، هذا الأرضي بسفنجته، اسمه الآن الجنازة، هذا الأسم العام، مثل بالطو الدكاترة، اوفراول العمال، مثل طبق البيض مصمم غيابياً على مقاس ما يحويه بحيث لا يمت له بصلة. اسم الجنازة هو بداية التخلي عن الشخص، محوه من خصوصيته، ايداعه في العموم تمهيداً لنفي الفراغ الذي سيصبحه في المكان و الأسم. ما هو الأسم المفرغ من صاحبه، وما هي الرائحة التي ليست الرائحة التي ليست لأحد بل الرائحة التي لم يعد لها أحدها، الرائحة المتروكة المعلقة في الفراغ بانتظار حدوثها. ما الكفن؟ رداء مشترك، صنعه لا أحد وكل أحد من اجل لا أحد. ما القبر؟ مكان غير معين، تحدده الصدفة المطلقة. ما بيت البكا؟ مكان عام، ليس بيت ناس فلان بل بيت البكا، ملكية معقودة في حافر الموت، تسمية تنزع المألوف الذي كان منذ برهة مهرباً من جحيم الشمس أو جحيماً هو ذاته، لكنه لم يعد نفسه على قول النشادر بل المكان الذي يجرد الموت، تجريد المجرد، مفهوم دال على مفهوم وفيه يتحقق تحويل الموت إلى إيماءة في المكان والزمان. لكنه أيضاً تكثيف، ترسيم خريطة الفقد، تخليق المادة الحارقة الحية توطئة لالتهام الحارق في لا جسده. هذه التسميات وتعيينات المعين بإزاحيته هي اللطف. وهي تخفيف ثقل الكائن الذي لا يُحتمل ثقله في المسافة الخجول بين مروق الروح من شخصيتها ودخولها في اللاشخصي، هذه المسافة التي يتحزم فيها الناس ويتلزمون لستر الجنازة، ستر جريمة الموت الموثقة، يغسلون الميت من رائحته ومن ذكرياته، يتركونه منكشفاً وبريئاً ومأخوذاً في غفلة الأين، لا يجرؤون على الاشارة اليه في خجله وانكشافه باسمه فيقال له جنازة، لا يجرؤون على تعيينه، لا يستطاع غيابه فلا مفر من تغييبه. ها هم يدفنون فلان ..لا، لا يستطيع احد أن يدفن فلان لأن فلان صديقي، اشترى لي برنجي ما يزال في جيبي، لا أحد يستطيع ايداع فلانة جوف الأرض ردمها بالتراب والتخلي عنها للمجهول والعتمة والدود، لا استطيع ... لذا يدفنون الجنازة، التي لها رائحة أخرى ليست رائحة شخص، وهي قادمة من مكان تجريدي، وذاهبة إلى التجريد. المرحوم، الفقيد، الراحل، الشهيد، أسماء، اشارات إلى الفراغ، دال في الحاضر لمدلول ماضي، لا يجتمع الراحل أبداً مع الشخص في زمن واحد، الراحل مستقبل الشخص والشخص ماضي المرحوم والفقيد فقد الشخص والشخص فراغ الفقيد لأن الراحل والفقيد يدلان على غياب، الراحل و المرحوم أسماء الفراغ، اسماء الفجوة التي تركها الشخص، أسهم اتجاه معلقة في حقل أبيض من العدم الأبيض، أسهم يتيمة أو قاتلة، الحقل هو القداسة، الديمومة، انسلخ عني شخصي ودخل في الديمومة، اسماء كثيرة يا فلان وكلها ليست لك، يتحدثون عنك في بيت البكا، يذكرونك مثل نبي، أقل الذكريات شأناً تتضخم وتملأ الفراغ الذي كنته، ثم تأتي للناس في الحلم فيفزعون منك، صرت خارقاً، اخيراً! يسألون عن آخر كلمة قلتها، الذين ظلوا بلا آذان لكل الضجيج الذي أحدثته، يتقربون منك، هل بكيت ساعة مروق الروح؟ هل قلبت الشهادة؟ من كان معك؟ لا يكفون عن تذكرك حتى لا يشعرون بالفراغ الذي ينوب عنك، الفراغ هو ما يهربون منه، بالعواسة وملاح البطاطس و ترامس الشاي، رائحتك المتروكة ورطة يهرب منها الجميع في تذكرك، اصبحت مقدساً كبيراً، لا يمكنك حتى الضحك على ذلك. هل يؤسس اسم الجنازة لاقتصاد الموت؟ اقتصاد المقدس حيث تتضخم القيمة في تغييبها ويستبدل الأسم بالكهنوت. ترتفع القيمة في ضمور الوفرة، القيمة والندرة، تناسب طردي، وصولاً إلى المعدوم، المعدوم قيمة قياسية، الصفر الخالد، تجارة التصوف، الانصراف عن ما له ثمن من أجل القيمة القياسية، المعدوم أو العدم، يتضخم الميت في الأسماء وصولاً إلى القيمة القياسية، وصولاً إلى الله أو الخلود. التسمية صراط القدس مولانا حضرة الشيخ فلان الحاج الفكي الأرباب يلحقنا وينجدنا، ابونا القس فلان الأسقف مرؤوس البطريرك رأس رئيس الشمامسة والكهنة أبناء الابن والروح القدس، دخلت يا أرضي بسفنجته في الحوش معهم، صرت مع الصديقين، اسماؤك رواة عن رواة عن رواة بحيث لا نصل إليك ابداً، صرت بعيداً جداً ولك أسماء كثيرة، مثل الرب بتسعة وتسعين اسم. الحبوبات حافظن على هذا السر ينادين الزوج ابو فلان، يضعن المسافة الضرورية بين طرفي علاقة القوة، مسافة الاحترام، أو الحرمة أو الحرام، بينما يكنيها ابو فلان بالجماعة، حبوبة جماعة، حبوبة واحدة كثيرة، ويا لها من دقة شديدة. انت مقدس مثلها ومثل عجب عين ام بلينة السنوسي وهي تغني اسمك تقيل يا فلان زي حنضل القيزان. المحبوب المقدس في القلب، المحترم الحرام وراء أسوار الرقيب، المحجوب في المكان وفي الزمان أيضاً. الأسم مقدس. الاسم حجاب وكلما عظم المحجوب زادت اسماؤه تشظياً في معناه الجوهر يثقل على التعيين و ينفرط الاسم في الفلك تزلفاً وعطشاً، المقدس حنضل القيزان، المقدس سُميِّة عالية تُنجَّى بتسمية وإن قصدت التعيين انحرفت عنه في الإشارة، التسمية انحراف استراتيجي، لا مواجهة ضرورية وهروب من التحديق. لذلك وجدت اللغة، ترمي قدام ورا مقدس، ورا سُمِّ، اللغة اسم سُمَّ، المسافة الضرورية بين المقدس والأرضي، الهروب من صمم الصمدية، الصمم المهروب في اللغة، ولذلك ايضاً لا يمكن أن توجد لغة من كلمة واحدة، لذلك فقط تبدأ اللغة ليس في لحظة التسمية بل في لحظة الانحراف عن ذلك الأسم، تظليله، حجبه، لحظة اللغة هي لحظة هدم الدلالة التي ولدت للتو. غير أن الأسم هو تعويذة ضد الموت، في السودان تطلق الاسماء الشينة الخشنة لتبطل مفعول الموت وتنجي المواليد، الأسم درقة، مصد سحري قادر على الفعل، أي اللغوي في انتقاله من اللافعل إلى الفعل. في اسم فطيس يتساوى "يفعل" و "يسمي" في التأثير ويتعين هنا قراءة اللغوي في ادائيته وتتويجه الكامل لإمرة اللغة كفعال سحري.
 اسم بيت البكا وشم مستمر، علامة مزمنة، أثر يستمر بزوال المؤثر، بيت البكا خالد في التجريد، فراغ مقدس. يستعيد المكان اسمه ولكن الذكريات المرتبطة بالموت تحافظ على تجريده، الاشارة اليه مقدسة، جئنا بيت البكا يوم البكا ولاقينا ناس البكا. عبر المكان بساكينه إلى الإمكان، صار في الذاكرة وفي الحلم منسلخاً من الأرض ومن الوظيفة. ناس البكا، لا تعيين المعين، تعويم القيمة، صعوداً في الحزن. الموت عملة صعبة يقاس عليها كل شيء ويعاد تقييمه وتسميته وتقديسه. يوم البكا بالتالي زمان تجريدي أيضاً، زمن مقتطع من الرتابة ومحروس بالتعمية .ناس البلد جوا. المكان التجريدي احتشد بالكثيف، الفضاء مسطبة مقرمة يجالس فيها الناس جماعياً الموت، يتفاوضون معه، يجرجرونه في شيطان التفاصيل، المعالجة الجماعية للحزن، ينكب الحشد دفعة واحدة على طيف دخاني، يقدون الهواء قدود كثيرة بمسامير أسرية ويشعلون النار في الحزن. اصطف الجيران، الجيران مهمون جداً، وجاءت النوبة في طرف ثوبها النحاس، وتداعى الظل من كل شجرة ظل صغير ومن الطير الطاير خفقة بعيدة، الصيوان جاموس يهم بالنهوض، جيء بالعزابة و فريق كورة الحي وأسياد الدكاكين، الكل حضر مع سكين خيالية، الثقوب انهمرت في نفسها، جلس الجاموس في بئر الحدقة، وحضرت القلوب أخيراً. السكاكين تحش صمت الطيف المقدود يتكثف ويرواغ ويهرب إلى عمود النور. معالجو البرق والحفاير، الشعس المغبرين، عليكم السلام في مفاوضة وفي جدل.