من تحايلاته الكثيرة تخفي الشعر في مكامن مرئية وتكشفه
في أشكال تلتحم مع الحياة في أكثر عواديها إظلاماً وغرابةً. ويقع في نطاق ذلك
شعرية موجة التغيير السياسي الحالية وهي تعصف وتزعزع ما استعصى على مجرد النظر والمراجعة
لعقود من المستنقعات العربية المتحركة بمجسات النفط والنفوذ الاستخباراتي والرعاية
اللصيقة من الأنظمة الغربية التي لم تنج بقعة من بقاع العالم الثالث من عطفها
وغوثها وثرثرتها الحقوقية مجرجرة معها قواميس
كاملة من المصطلحات والتعريفات والبنود. ولكن هذه النزعة التصحيحية الغربية شملت أيضاً
تعاطفاً جسيماً مع الأنظمة الشمولية والدكتاتوريات المخلدة في شكل ملوك وسلاطين
وجنرالات مخبولين. إن الإحراج الغربي الحالي سيبقى الفضيحة الأشد إيلاماً لصقور
المخابرات الغربية إذ أنه قائم وبشكل مطلق على الجهل وبؤس القدرة على التحليل
الاستخباراتي الذي عجز عن التنبوء ولو على طريقة ساحرات ماكبث الترميزية بأكبر موجة
تغيير سياسي في إقليم استراتيجي يحمد له من بين مآثر عديدة الإبقاء على أقدام
الملايين من الأوربيين دافئة. وكان ثمن هذا العمى الواثق حرمان الغرب لأول مرة
من قدرته على التوجيه والإحاطة والاحتواء والترمم
على جثة على كل ما يمس الغرب وإسرائيل أولاً. مثل ذلك لحظةً خارجةً على خرائط
الطريق، انحراف دقيق عن الوعي الاستهلاكي حتى وهو يتجه رأساً إلى سيطرة اسلامية آن
اوان امتحانها الأصعب.
تحررت موجة الغضب
الشعبي من أسر البؤس اليومي حين قررت التفكير في المستقبل مع كل ما يعنيه ذلك من
تضحيات مريرة ومخاطرة. وفي مخاض ذلك أوجدت هذه الموجة منطقها الشعري الخاص مخضعة ً
معجزات عصية لأحوالها بما في ذلك شكوك الزلزال في ذاته عند رعشته الأولى. ولكن من
بين أكثر الوجوه شعرية في هذه الثورات هو استرداد جنة الفرد من براثن منظومات
معتقة معنية بالإنسان بوصفه جزءاً من مجاميع أكبر تتراوح بين الانتماء العرقي والديني
وما بين ذلك من جيوب قبلية وطائفية. ففي تونس خرجت التأتأة الأولى لخطاب الثورة في
حادثة انتحار مثقلة بالرسائل والإشارات. لقد لعب اخراج مشهد انتحار شاب في مدينة
تونسية منسية دوراً حاسماً في حيوات مئات الملايين من البشر، ولا يمكن التغاضي عن
حرفية ذلك وشاعريته. فما هي إلا لحظة حتى احرق الشاب نفسه قبالة المؤسسة التي أهانته
ملخصاً الصراع كله، بكل تعقيداته وثرثرته، في جملتين متناقضتين جذرياً تنسخ
إحداهما الأخرى إلى ما لانهاية، جملة الفرد اليائس المنسي والمهان وجملة المؤسسة المتصلفة
والمحمية بالتسطيح والتبلد، علامتان تفصلهما مسافة هي لحظة التاريخ البطيئة، حقل
من المستحيلات لا يمكن عبوره إلا عبر عزل المستحيل وتسريح المنطقي والتخلي عن كل
الخيارات المأمونة، أي لحظة الشعري والخارق والمجنون والغامض والخارج على القانون
والتشريعات، والذي لم يكن في حالة البوعزيزي إلا تحول إرادة الحياة إلى معنى مكثف
لا يحتويه أي شكل اقل من احتراق الأعضاء الحية، بلاغة اللحم في حفلة الشواء
الأخير، صفع الجسد رداً على صفع الخد اليمنى، التعالي على التسامح والمغفرة وأكل
تماسيح الأخلاق التي نهشت إنسانية الفرد، اهانة الحق في العيش من اجل الحق في
الحياة، تعرية السلام المسيحي وإرباك الموبق الإسلامي. لقد جرد البوعزيزي المؤسسة
من سلاحها الرئيسي وهو قدرتها على التأثير على حياته، منتصراً لحياته بموته
ومستعيداً السلاح بشكل نهائي إلى قبضته المحترقة التي لم تعد بحاجة إلى السلامة
بقدر حاجتها إلى الخلود، وكان ذلك طريق مشى فيه المسيح نفسه والحلاج كله شلواً بعد
شلو. فإن كان الشعر تكثيفا لمادة نابعة مما هو أغرب من المعرفة والجهل، من مركز
ذهني يخوض التجربة من باب نقاءها و أصالتها وليس من باب حكمتها أو صحتها، فهو عين
ما خاضه ذلك الجسد المأخوذ بفتنة النار. جرح البوعزيزي وطعن ظلال أفيال كثيرة في
استنارته الأخيرة، وما أن عاد رماده إلى قلب الأرض حتى انقلب سحر الفرد على ساحر
النظام.
البحر هو كل خط
لا ينتهي بمقبرة
إقلاع شعاع مغمور يحمل في ظهره بغال التجديد
إلى مستقبل
منسي في الماضي،
إلى حقل القروح الذهنية
حيث في معسكرات
معقمة ونقية من الألم
تستزرع الرئة
في شمعدان السل وتنبت في كل مرة شمس الحياة.