Friday, February 22, 2013

اسم الجنازة




اسم الجنازة: تجريد المجرد
بيت البكا حيز تفكيك وازاحة يتحول فيه الغامض المتعالي إلى اشارات مشتركة دالة عليه ليس في غموضه فحسب بل في ازاحيته وخارجيته وعزلاته. أداءات جماعية تدحض الموت بتنزيله إلى لغة، مؤامرة التفادي والتعمية بتحويلات دقيقة تبدأ دائماً بتسمية المسمى وتعيين المعين. بيت البكا الولادة الثانية لما كان مرة كائن معين باسمه، قبل برهة كان شخصياً، وكانت له رائحة وشخير وكان ينسى، هذا الأرضي بسفنجته، اسمه الآن الجنازة، هذا الأسم العام، مثل بالطو الدكاترة، اوفراول العمال، مثل طبق البيض مصمم غيابياً على مقاس ما يحويه بحيث لا يمت له بصلة. اسم الجنازة هو بداية التخلي عن الشخص، محوه من خصوصيته، ايداعه في العموم تمهيداً لنفي الفراغ الذي سيصبحه في المكان و الأسم. ما هو الأسم المفرغ من صاحبه، وما هي الرائحة التي ليست الرائحة التي ليست لأحد بل الرائحة التي لم يعد لها أحدها، الرائحة المتروكة المعلقة في الفراغ بانتظار حدوثها. ما الكفن؟ رداء مشترك، صنعه لا أحد وكل أحد من اجل لا أحد. ما القبر؟ مكان غير معين، تحدده الصدفة المطلقة. ما بيت البكا؟ مكان عام، ليس بيت ناس فلان بل بيت البكا، ملكية معقودة في حافر الموت، تسمية تنزع المألوف الذي كان منذ برهة مهرباً من جحيم الشمس أو جحيماً هو ذاته، لكنه لم يعد نفسه على قول النشادر بل المكان الذي يجرد الموت، تجريد المجرد، مفهوم دال على مفهوم وفيه يتحقق تحويل الموت إلى إيماءة في المكان والزمان. لكنه أيضاً تكثيف، ترسيم خريطة الفقد، تخليق المادة الحارقة الحية توطئة لالتهام الحارق في لا جسده. هذه التسميات وتعيينات المعين بإزاحيته هي اللطف. وهي تخفيف ثقل الكائن الذي لا يُحتمل ثقله في المسافة الخجول بين مروق الروح من شخصيتها ودخولها في اللاشخصي، هذه المسافة التي يتحزم فيها الناس ويتلزمون لستر الجنازة، ستر جريمة الموت الموثقة، يغسلون الميت من رائحته ومن ذكرياته، يتركونه منكشفاً وبريئاً ومأخوذاً في غفلة الأين، لا يجرؤون على الاشارة اليه في خجله وانكشافه باسمه فيقال له جنازة، لا يجرؤون على تعيينه، لا يستطاع غيابه فلا مفر من تغييبه. ها هم يدفنون فلان ..لا، لا يستطيع احد أن يدفن فلان لأن فلان صديقي، اشترى لي برنجي ما يزال في جيبي، لا أحد يستطيع ايداع فلانة جوف الأرض ردمها بالتراب والتخلي عنها للمجهول والعتمة والدود، لا استطيع ... لذا يدفنون الجنازة، التي لها رائحة أخرى ليست رائحة شخص، وهي قادمة من مكان تجريدي، وذاهبة إلى التجريد. المرحوم، الفقيد، الراحل، الشهيد، أسماء، اشارات إلى الفراغ، دال في الحاضر لمدلول ماضي، لا يجتمع الراحل أبداً مع الشخص في زمن واحد، الراحل مستقبل الشخص والشخص ماضي المرحوم والفقيد فقد الشخص والشخص فراغ الفقيد لأن الراحل والفقيد يدلان على غياب، الراحل و المرحوم أسماء الفراغ، اسماء الفجوة التي تركها الشخص، أسهم اتجاه معلقة في حقل أبيض من العدم الأبيض، أسهم يتيمة أو قاتلة، الحقل هو القداسة، الديمومة، انسلخ عني شخصي ودخل في الديمومة، اسماء كثيرة يا فلان وكلها ليست لك، يتحدثون عنك في بيت البكا، يذكرونك مثل نبي، أقل الذكريات شأناً تتضخم وتملأ الفراغ الذي كنته، ثم تأتي للناس في الحلم فيفزعون منك، صرت خارقاً، اخيراً! يسألون عن آخر كلمة قلتها، الذين ظلوا بلا آذان لكل الضجيج الذي أحدثته، يتقربون منك، هل بكيت ساعة مروق الروح؟ هل قلبت الشهادة؟ من كان معك؟ لا يكفون عن تذكرك حتى لا يشعرون بالفراغ الذي ينوب عنك، الفراغ هو ما يهربون منه، بالعواسة وملاح البطاطس و ترامس الشاي، رائحتك المتروكة ورطة يهرب منها الجميع في تذكرك، اصبحت مقدساً كبيراً، لا يمكنك حتى الضحك على ذلك. هل يؤسس اسم الجنازة لاقتصاد الموت؟ اقتصاد المقدس حيث تتضخم القيمة في تغييبها ويستبدل الأسم بالكهنوت. ترتفع القيمة في ضمور الوفرة، القيمة والندرة، تناسب طردي، وصولاً إلى المعدوم، المعدوم قيمة قياسية، الصفر الخالد، تجارة التصوف، الانصراف عن ما له ثمن من أجل القيمة القياسية، المعدوم أو العدم، يتضخم الميت في الأسماء وصولاً إلى القيمة القياسية، وصولاً إلى الله أو الخلود. التسمية صراط القدس مولانا حضرة الشيخ فلان الحاج الفكي الأرباب يلحقنا وينجدنا، ابونا القس فلان الأسقف مرؤوس البطريرك رأس رئيس الشمامسة والكهنة أبناء الابن والروح القدس، دخلت يا أرضي بسفنجته في الحوش معهم، صرت مع الصديقين، اسماؤك رواة عن رواة عن رواة بحيث لا نصل إليك ابداً، صرت بعيداً جداً ولك أسماء كثيرة، مثل الرب بتسعة وتسعين اسم. الحبوبات حافظن على هذا السر ينادين الزوج ابو فلان، يضعن المسافة الضرورية بين طرفي علاقة القوة، مسافة الاحترام، أو الحرمة أو الحرام، بينما يكنيها ابو فلان بالجماعة، حبوبة جماعة، حبوبة واحدة كثيرة، ويا لها من دقة شديدة. انت مقدس مثلها ومثل عجب عين ام بلينة السنوسي وهي تغني اسمك تقيل يا فلان زي حنضل القيزان. المحبوب المقدس في القلب، المحترم الحرام وراء أسوار الرقيب، المحجوب في المكان وفي الزمان أيضاً. الأسم مقدس. الاسم حجاب وكلما عظم المحجوب زادت اسماؤه تشظياً في معناه الجوهر يثقل على التعيين و ينفرط الاسم في الفلك تزلفاً وعطشاً، المقدس حنضل القيزان، المقدس سُميِّة عالية تُنجَّى بتسمية وإن قصدت التعيين انحرفت عنه في الإشارة، التسمية انحراف استراتيجي، لا مواجهة ضرورية وهروب من التحديق. لذلك وجدت اللغة، ترمي قدام ورا مقدس، ورا سُمِّ، اللغة اسم سُمَّ، المسافة الضرورية بين المقدس والأرضي، الهروب من صمم الصمدية، الصمم المهروب في اللغة، ولذلك ايضاً لا يمكن أن توجد لغة من كلمة واحدة، لذلك فقط تبدأ اللغة ليس في لحظة التسمية بل في لحظة الانحراف عن ذلك الأسم، تظليله، حجبه، لحظة اللغة هي لحظة هدم الدلالة التي ولدت للتو. غير أن الأسم هو تعويذة ضد الموت، في السودان تطلق الاسماء الشينة الخشنة لتبطل مفعول الموت وتنجي المواليد، الأسم درقة، مصد سحري قادر على الفعل، أي اللغوي في انتقاله من اللافعل إلى الفعل. في اسم فطيس يتساوى "يفعل" و "يسمي" في التأثير ويتعين هنا قراءة اللغوي في ادائيته وتتويجه الكامل لإمرة اللغة كفعال سحري.
 اسم بيت البكا وشم مستمر، علامة مزمنة، أثر يستمر بزوال المؤثر، بيت البكا خالد في التجريد، فراغ مقدس. يستعيد المكان اسمه ولكن الذكريات المرتبطة بالموت تحافظ على تجريده، الاشارة اليه مقدسة، جئنا بيت البكا يوم البكا ولاقينا ناس البكا. عبر المكان بساكينه إلى الإمكان، صار في الذاكرة وفي الحلم منسلخاً من الأرض ومن الوظيفة. ناس البكا، لا تعيين المعين، تعويم القيمة، صعوداً في الحزن. الموت عملة صعبة يقاس عليها كل شيء ويعاد تقييمه وتسميته وتقديسه. يوم البكا بالتالي زمان تجريدي أيضاً، زمن مقتطع من الرتابة ومحروس بالتعمية .ناس البلد جوا. المكان التجريدي احتشد بالكثيف، الفضاء مسطبة مقرمة يجالس فيها الناس جماعياً الموت، يتفاوضون معه، يجرجرونه في شيطان التفاصيل، المعالجة الجماعية للحزن، ينكب الحشد دفعة واحدة على طيف دخاني، يقدون الهواء قدود كثيرة بمسامير أسرية ويشعلون النار في الحزن. اصطف الجيران، الجيران مهمون جداً، وجاءت النوبة في طرف ثوبها النحاس، وتداعى الظل من كل شجرة ظل صغير ومن الطير الطاير خفقة بعيدة، الصيوان جاموس يهم بالنهوض، جيء بالعزابة و فريق كورة الحي وأسياد الدكاكين، الكل حضر مع سكين خيالية، الثقوب انهمرت في نفسها، جلس الجاموس في بئر الحدقة، وحضرت القلوب أخيراً. السكاكين تحش صمت الطيف المقدود يتكثف ويرواغ ويهرب إلى عمود النور. معالجو البرق والحفاير، الشعس المغبرين، عليكم السلام في مفاوضة وفي جدل.


No comments:

Post a Comment