Saturday, July 5, 2014

المستقبل  القديم

عن هادية وحياة وآمال


لما صعدن إلى قلوبنا الخطرة وسمحن للأصفر بالسريان مع الليل قمن بما هو أكثر من تجبيرنا كنهر بيتي؛ لقد وضعننا فجأةً- كمنسيين وبخار صدأ - في مجرى الحياة. لم نكن أكثر من إرادة صماء تحت عجلة القبح وهنَّ في غفلةٍ متسقة مع ركامنا. أخذن، كبلابل حقيقية ترتعش، أيدينا وأشرن إلى ماضٍ غير منظورٍ بردهة المستقبل. منذ تلك الليلة ونحن نتعرض ونصاب ونحيا.
كانت هادية، دوناً عن عشرة آلاف رئة جزلة، بت الجيران الوحيدة في مسرح الجيش. طفلة عصبية سعيدة تصنع مسئولياتها المباغتة:  تشير بيدها للفرقة الموسيقية، تنقذ الطرحة الإضطرارية، تتقافز على الليلة بطولها، تظبط المايكروفونات لاختيها، تنهار، بثبات آيروسي،  من اللحن وتحمل الجمهور بنظرة احتفظت بها لقرون في هواء الخرطوم.

لأنهن، لمحضهن تسربت الحياة من التشققات الحجرية التي هي شيئاً فشيئاً وجوه سودانيين شبه أصحاء على درجة نبيلة من الذعر، الشعب؟  كيف عشنا رغم كل شيء؟ كنت أتَفَلَّت من الصحيان لأصدق مكاني قبالة خشبة المسرح، أنظر ورائي وفي تصوري كتلة عمياء منهكة من الجيشان وكنت في كل لحظة أجدها.  النمو لأول مرة، منذ لحظتهن الأولى بأرواحانا، خاصية جماعية. والمسرح شمس تحت شمس الإنضاج ويربو تحت لهب الطفولة.كنا نعيش! تعولنا موسيقى صبيانية في ضباب حيوي وضاح في ليال يومية بعيدة كبوابات اللحن. الحياة في الحياة .لم  نتذكر؛ لم نصعد إلى؛ كنا نتمدد على الزمن واللحظة والوقت والآن ونتضعضع مثل حجر أُلقيت عليه آلاف البحار.
قلت أن المجاز كان مخدوشاً بحقيقتهن، في حين تحولت كل لفتةٍ وكل عناقٍ إلى رسالة مُرَمَّزة موضوعها الحرية. كنَّ أكثر بكثير من مجرد عودة، وفاضَ ذلك عنهن في خيوط عزيزة نسجها الفن. لا أعرف كم من الحضور كان يصدق أن تلك ليلة ترعاها شركة اتصالات! من أجل هذه المعجزة الصغيرة ذُبح خُمس قرن من التربية المَوْتَوِيَّة مضاعفة إلى ما لانهاية بالتنفيذ الرديء لكهنوت الشارع الظالم والمضجر.
تعقيد الصورة المركبة من طبقات عصابية تجمع بين الجوع والسباحة في المفقود؛ تعقيد روائي. كان القدر موجوداً رئيسياً في حفل يجمع بين جمهوره كل شيء ولاشيء. اقتسم فيه البعض ركام نجاتهم في التضحية ولو بدرجةٍ مشكوكٍ بها من الترقي وآلام المفاصل والانهيارات والأبناء غير المفهومين، واقتسم آخرون ركام نجاحهم في أن يكونوا وحيدين ومحاربي طواحين، بينما انخرطت كتيبة الطلقاء الضرورين، من الفئتين،  في تطاحن تشوبه بذاءة قومية بسبب الهلال والمريخ. ظننت أن كثيرين جاءوا للإنتقام لأنهم ظلوا يتقدمون في العمر كل يوم وسألت هل الأغاني هي القديمة؟ أين الزمن؟ ولم لا؛ لقد وُلِدَ رسول أعزل في مثل هذا اليوم!
 لكننا كنا هناك، وتنفسنا كل محيطٍ حتى الهواء العائد من الكمنجات التي تظنهن شجرة العائلة. تنفسنا صوتهن الواحد الكثير المضفور بالغرابة. الموسيقى العاشق معشوق والجمل الخلفية المؤكدة في قماشة الحس. الكمنجات التي كيف تتحمل كل ذلك في هدوء تصنعه آلهةٌ مجهولةٌ تحت التمرين. ما اللحن؟ ما سره؟ كم عدد خلاياه إن كان حياً وأين ضفائره إن لم يكن؟.
يقفن بنفس الترتيب القديم في المعبد الضخم، الهيكل المهيب لضحكة النوبيات من القلب. يتصرفن بطبيعية قاسية ويذهبن فجأة إلى البيت. كيف نجهل بعدكن ألمنا الملفوف في ضمادة التأجيل، لن يسمح الله، لم نكن مجرد جمهور يا بنات، كنا قطار عميق أنهكه الحرمان من عناية أرواحكن.
الخرطوم
الحفل الأول للبلابل بعد العودة للسودان
نادي ضباط قوات الشعب المسلحة

25 ديسمبر 2008

No comments:

Post a Comment